
في ظل الزيارة المرتقبة لرئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إلى نواكشوط، على رأس وفد وزاري رفيع، تجد موريتانيا نفسها أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة علاقتها الاقتصادية مع إسبانيا على أسس استراتيجية، تتجاوز الشعارات والتصريحات، نحو مشاريع واقعية ومربحة للطرفين.
لقد تعوّدنا في السابق على خطاب ترويجي يشبه "أغنية مفادها أن السقوط يشبه الطيران ولو للحظة"، حيث يُصوَّر كل استثمار على أنه إنجاز، دون تقييم جدي للعوائد أو الاستدامة.
حان الوقت إذًا لننتقل من حديث "لدينا الصيد والمعادن" إلى سياسة محكمة تقوم على التصنيع ونقل التكنولوجيا وتكوين الكفاءات، بدلًا من الاكتفاء بتصدير المواد الخام وانتظار العائدات المحدودة.
وفي هذا السياق، أرى أن نستثني من الاتفاقيات قطاعي الصيد والمعادن قبل توفير الطاقة ومصانع السفن، أو نضع توفير هذه الأسس كشرط أساسي لأي اتفاق في هذين القطاعين. فبدون طاقة متاحة ومصانع مجهزة، سنبقى في دائرة مفرغة من التبعية وتصدير الخام. وعلى هذا الأساس، يجب التركيز على مايلي :
أولًا: النقل... العصب المفقود في الدورة الاقتصادية
إسبانيا ليست مجرد دولة أوروبية، بل هي بوابة لوجستية رئيسية إلى أوروبا والعالم، وتربطها بموريتانيا حدود بحرية وتاريخ مشترك، ما يجعلها الشريك الطبيعي في حل أزمة النقل الموريتاني على المستويات الثلاثة:
1. النقل البحري:
إنشاء خط بحري مباشر بين نواذيبو وأحد الموانئ الإسبانية (مثل فالنسيا أو جزر الكناري).
دعم المنطقة الحرة بنواذيبو وتحويلها إلى مركز عبور للبضائع نحو إفريقيا.
تسهيل عمليات التصدير والاستيراد وخفض التكاليف.
2. النقل الجوي:
إطلاق رحلات "شارتر" منتظمة بين المدن الإسبانية ونواكشوط/نواذيبو.
تشجيع السياحة والتبادل التجاري والثقافي.
تخفيف الضغط عن الجالية الموريتانية في أوروبا.
3. النقل الداخلي: " أل مركوب "
فتح فرع لشركة SAIT في موريتانيا لإنتاج سيارات منخفضة التكلفة.
تطوير قطاع النقل العمومي وخلق فرص عمل جديدة.
إدخال البلد في مسار التصنيع الخفيف والتحول الصناعي.
ثانيًا: الاستثمار
لا يكفي أن نقول "لدينا الغاز والشمس"… بل علينا الاستثمار فيهما بذكاء عبر شراكات واضحة المعالم، تضمن موريتانيا فيها نقل المعرفة وتوظيف اليد العاملة المحلية.
الطاقات المتجددة:
دعوة الشركات الإسبانية الرائدة (مثل Iberdrola وAcciona) للاستثمار في مشاريع الطاقة الشمسية والرياح.
إنشاء مناطق إنتاج مخصصة للطاقة النظيفة لتغذية المصانع والمزارع.
الغاز:
التفاوض حول مشروع أنبوب غاز لتصدير الغاز الموريتاني أو الاستفادة منه محليًا.
شراكة ثلاثية: موريتانيا – إسبانيا – شركة طاقة أوروبية.
ثالثًا: الثروة الحيوانية
موريتانيا تملك ثروة حيوانية هائلة، لكن أغلبها لايُصدر ، ما يُفوّت على البلاد فرصًا اقتصادية كبرى.
الحلول:
تمويل مسلخة حديثة وفق المعايير العالمية، مخصصة للتصدير.
إنشاء مصنع لتحويل الجلود بالشراكة مع خبراء إسبان، خاصة أن إسبانيا من رواد صناعة الجلود في العالم.
الاستفادة من المنتجات الثانوية وتصديرها ضمن سلسلة القيمة المضافة.
رابعًا: الزراعة
الزراعة البيولوجية (BIO) تمثل مستقبل الغذاء في أوروبا، وموريتانيا تملك أراضي خصبة ومياه نهرية، لكنها تحتاج إلى:
شراكة مع مؤسسات زراعية إسبانية لإدخال تقنيات الري والتسميد الحديثة.
تطوير زراعة عضوية موجهة للتصدير نحو السوق الأوروبية.
خامسًا: الرقمنة والتكنولوجيا
موريتانيا بحاجة إلى قفزة نوعية في مجال الرقمنة والبنية التحتية الرقمية، ويمكن لإسبانيا أن تساهم في:
شراكة لإطلاق قمر صناعي موريتاني لأغراض الاتصالات والمراقبة الزراعية والبيئية.
تطوير الكابل البحري والربط الدولي بالشبكات الأوروبية.
دعم مشاريع التكوين المهني في الرقمنة والتكنولوجيا.
سادسًا: السياحة
السياحة الموريتانية لا ينبغي أن تبقى حبيسة الصحراء والمدن القديمة، بل يجب أن تتطور نحو:
سياحة ثقافية متنقلة: عروض تقليدية متنقلة في المدن الإسبانية (خيام، آلات موسيقية، الصناعات التقليدية).
تنظيم أسابيع ثقافية موريتانية في برشلونة، مدريد، أو إشبيلية.
تبادل ثقافي دائم يعزز صورة موريتانيا لدى السائح الأوروبي.
سابعًا: ملفات
الهجرة: من الهجرة غير النظامية إلى هجرة منتجة منظمة عبر التكوين والتأطير.
الأمن: تعاون استخباراتي وعسكري لتأمين المنطقة، خصوصًا في ظل الوضع المعقد في الساحل.
زيارة الحكومة الإسبانية ليست مجرد بروتوكول سياسي، بل فرصة لبناء شراكة تنموية ذكية. شراكة لا تقوم على "تنتاك تراة" ولا على تصدير السمك الخام، بل على نقل القيمة، وتبادل المصالح، وبناء المستقبل.
إذا أحسنا التفاوض، وخططنا جيدًا، وفرضنا أولوياتنا الوطنية، يمكن أن تكون هذه الزيارة نقطة تحول حقيقية لموريتانيا.
__________
محمد الأمين لحويج