
بعض الرحلات تملأ القلب حماسة، وتثير في النفس شوقًا لما ستراه، وتترقبه من استقبال. كانت رحلتي إلى موريتانيا بالنسبة لي إحدى هذه الرحلات المثيرة.
ما دفعني لهذا الشعور أسباب عدة، لعل أبرزها أن موريتانيا تمثل منارة للإسلام في غرب إفريقيا. وقد لاحظت ذلك من خلال اللقاءات التي جمعتني بأشقائنا الموريتانيين في المحافل الدولية، حيث تجلت فيهم أخلاق الصدق والإخلاص الديني، مما قرّب بين قلوبنا.
تربط المؤمنين رابطة قلبية عميقة، تتجلى في الرحمة والوفاء والشعور بالمسؤولية. والعلاقة بين تركيا وموريتانيا تتجاوز الأطر الدبلوماسية، لتُبنى على الثقة المتبادلة والقيم المشتركة.
خلال زيارتنا، شعرنا بأن قلوب المؤمنين تلتقي في مناخ من الرحمة، وكانت هذه الصداقة تجسيدًا لقوله تعالى في سورة الحجرات: "إنما المؤمنون إخوة". تلك الأخوة التي تجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على قلب رجل واحد، تنقل هذه الأخوة علاقاتنا مع موريتانيا إلى ما هو أبعد من البروتوكولات الرسمية.
ومن دواعي محبتنا لموريتانيا أيضًا، أنها بعد نضال شريف دام عقدًا من الزمن، نالت استقلالها عن فرنسا عام 1960.
كما أن موقفها النبيل بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016، حين كانت من أوائل الدول التي أعلنت دعمها لتركيا، عزز مشاعر الامتنان والوفاء لدينا. فقد أغلقت موريتانيا مدارس تنظيم "غولن" وسلمتها لمؤسسة المعارف التركية، مما عزز من تضامننا.
وفي 6 فبراير 2023، بعد الزلزال الذي وصفناه بـ"كارثة القرن"، كانت موريتانيا من أوائل الدول التي قدمت تعازيها لفخامة رئيسنا، مؤكدة مرة أخرى على عمق الأخوة التي تجمعنا.
لقد غمرني شعور بالفخر حين تم تعييني رئيسًا للجنة المعنية بتعزيز العلاقات بين تركيا وموريتانيا، هذه البلاد التي أكنّ لها مشاعر ود صادقة لأسبابٍ عديدة. ومؤخرًا، قدمت إلى موريتانيا بعزيمة راسخة وإحساس عميق بالقرب الأخوي، قدمت إليها من أجل عقد اجتماعات تهدف إلى توطيد أواصر الأخوة بين بلدينا.
ما إن وطئت أقدامنا مطار نواكشوط، حتى استقبلتنا بعثة رفيعة المستوى برئاسة معالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي السيد يعقوب ولد أمين، وكان في وجوههم المشرقة تجسيد حي لدفء الأخوة وصدق المحبة. لقد شعرنا من اللحظة الأولى بقوة الصداقة التي تربطنا، وكان ذلك الاستقبال المهيب انعكاسًا حقيقيًا لأخوتنا الصادقة.
ولم تقتصر مشاعر الترحيب والود على الوفود الرسمية، بل لمسناها في كل من تعامل معنا، من موظفي الفندق الذين أبدوا حسن الضيافة، إلى القنصل الفخري لتركيا في موريتانيا السيد موسى الصوفي، الذي يمثل بلادنا خير تمثيل. كانت مشاعر الود والدفء التي أحاطتنا في كل لحظة من الزيارة، دلالة على عمق المحبة المتأصلة بين شعبي البلدين. ففي كل ابتسامة، وفي كل تحية، كنا نستشعر صدق العلاقة وعلو شأنها، ورأينا في عيون إخوتنا الموريتانيين احترامًا عظيمًا وتوقًا صادقًا نحو تركيا.
هذا المناخ الصادق الذي ساد زيارتنا، إنما هو ثمرة ما يكنّه الموريتانيون من محبة خاصة لفخامة رئيس جمهوريتنا السيد رجب طيب أردوغان، وللشعب التركي بأسره.
وقد تجلى ذلك بوضوح صباح يوم الخميس، الموافق 22 مايو، حين استُهلّت اللقاءات الثنائية بكلمات ترحيب مؤثرة من كافة أصحاب المعالي الوزراء ، قالوا فيها: "مرحبًا بكم في وبلدكم الثاني". لم تكن هذه الكلمات مجرّد مجاملة بروتوكولية، بل كانت تنبع من أعماق القلوب، وتحمل مشاعر الانتماء والمصير المشترك.
هذا الترحاب الدافئ حوّل زيارتنا من مهمة رسمية إلى ضيافة قلبية صادقة ، تتجاوز حدود البروتوكولات، وتعبّر عن حلم مشترك لمستقبل واحد. وفي ختام أعمال اللجنة الاقتصادية المشتركة، توّجنا جهودنا بتوقيع مذكرة تفاهم شاملة تمهد لمرحلة جديدة من التعاون، لا تقتصر على الاقتصاد فحسب، بل تمتد لتشمل الشراكة الثقافية والاستراتيجية.
وقد أثبتت الروح الإيجابية والرؤية المشتركة التي سادت المباحثات، أن هذا الاتفاق سيُترجم في المستقبل إلى مشاريع مثمرة ومستدامة، تخدم مصالح شعبينا وتُعزز أواصر الصداقة بين تركيا وموريتانيا.
على مدار يومين من الاجتماعات المكثفة والبنّاءة، تبيّن لنا بوضوح أن مستوى العلاقات الثنائية بين تركيا وموريتانيا لا يعكس الإمكانات المتاحة بين البلدين. فعلى سبيل المثال، بلغ حجم التبادل التجاري في عام 2024 حوالي 201 مليون دولار فقط، وهو رقم متواضع مقارنة بالقدرات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية التي يمتلكها الطرفان.
خلال الاجتماعات، تم التطرق إلى مجالات تعاون متعددة، منها توفير مياه الشرب، إنشاء محطات المعالجة، بناء المصانع والمساكن، وتطوير مشاريع البناء العامة. كما أُشير إلى إمكانية تعزيز خدمات المقاولات الحالية من حيث الجودة والكمية. وتم التأكيد على وجود أرضية مناسبة لتعزيز العلاقات الثنائية في قطاعات مثل مصانع معالجة الأسماك، البنية التحتية لإنتاج الحديد والصلب، الحقول الزراعية، وتجهيز سفن الصيد.
وفيما يتعلق بالقطاعات الاستراتيجية مثل الطاقة، التعدين، والهيدروكربونات، تم التأكيد على إمكانية خلق زخم جديد في العلاقات بين تركيا وموريتانيا. وفي هذا السياق، تم الإشارة إلى أهمية الاستثمارات في "الطاقة الخضراء" التي توليها الحكومة الموريتانية اهتمامًا كبيرًا. أما في القطاع الزراعي، فهناك فرص واسعة للتعاون في مجالات الأمن الغذائي، الزراعة المحمية، تقنيات الري الحديثة، وخلق فرص عمل مهمة في هذه المجالات.
قطاع الصيد البحري، نظرًا لإمكاناته وأهميته الإقليمية، برز كموضوع خاص يتطلب اهتمامًا إضافيًا. بالإضافة إلى ذلك، تم التأكيد على إمكانية تعميق العلاقات بين البلدين في مجالات متنوعة مثل الخدمات الصحية، العلوم والتكنولوجيا، التعليم، السياحة، التخطيط الحضري، وحتى معالجة القضايا البيئية مثل التصحر ونحوه.
خلال لقاءاتنا، كان لنا الشرف بالتواصل مع شخصيات بارزة مثل معالي رئيس الوزراء السيد مختار ولد اجاي، ومعالي وزيرة التربية وإصلاح النظام التعليمي السيدة هدى باباه ومعالي وزيرة التجارة والسياحة السيدة زينب منت أحمدناه، ومعالي وزيرة الشؤون الاجتماعية والطفولة والأسرة السيدة صفية منت انتهاه. نعرب لهم عن خالص شكرنا لاستقبالهم الحار وتعاملهم معنا كأصدقاء طال انتظارهم، وليس فقط كضيوف.
لقد جسدت الضيافة الرفيعة واللباقة الدبلوماسية التي شهدناها خلال هذه الاجتماعات عمق العلاقات بين بلدينا، مما يعزز من آفاق التعاون المستقبلي في مختلف المجالات.
لقد عكست هذه الضيافة الراقية، التي تجاوزت حدود المجاملات البروتوكولية، مشاعر أخوة نابعة من الثقة المتبادلة، وكانت دليلاً ساطعاً على عمق المحبة التي يكنّها الشعب الموريتاني لتركيا وشعبها، ومظهراً جليًّا لصداقةٍ ضاربةٍ بجذورها في التاريخ.
تعد مؤسسة مدارس المعارف التركية، التي تأسست عام 2016، من المؤسسات الرائدة التي تهدف إلى تعزيز حضور بلادنا في مجال التعليم الدولي، وتوفير فرص تعليمية نوعية في البلدان الشقيقة والصديقة، وبناء علامة تعليمية عالمية مرموقة. وفي ضوء هذه الرؤية، تواصل المؤسسة إسهاماتها الكبيرة في مسيرة التعليم بموريتانيا. إذ تقدم خدماتها حالياً لما يزيد عن 1350 طالباً في 9 مدارس منتشرة عبر البلاد، ولا يقتصر دورها على التعليم الأكاديمي فقط، بل يمتد إلى مجالات التبادل الثقافي، ونقل القيم، وتشييد جسور صداقة متينة وطويلة الأمد. ومن المؤكد أن استمرار هذه الأنشطة وتوسّعها سيُسهم في ترسيخ العلاقات الثنائية على أسس أكثر عمقاً واستدامة.
إن استمرار هذه الجهود المباركة وتوسعها سيسهم دون شك في ترسيخ العلاقات بين البلدين الشقيقين على أسسٍ عميقةٍ ومستدامة، تُثمر تعاونًا مثمرًا وشراكةً إستراتيجيةً في جميع المجالات.
وأؤمن بصدق أن جميع الملفات التي من شأنها أن تطوّر علاقاتنا، ستُناقش وتُحسم بتفصيل تحت قيادة وتوجيه فخامة رئيس الجمهورية السيد رجب طيب أردوغان، ونظيره الموريتاني فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، بما يخدم المصالح العليا للبلدين.
إن الإرادة السياسية الحازمة التي يُجسّدها قائدا البلدين، تُشكّل لنا بوصلة نهتدي بها ومسؤولية نتحمّلها بكل وعي، ونحن مستمرون في جهودنا لتحويل التمثيل الدبلوماسي إلى معنى حيّ ومؤثّر على أرض الواقع.
هناك العديد من المجالات التي يمكن العمل على تعزيزها في العلاقات الثنائية، بدءاً من قطاع الصيد البحري، ومروراً بالزراعة وتربية المواشي، والنقل واللوجستيات، ووصولاً إلى التعليم، ولا سيما التعاون في مجال التعليم العالي. فهذه الفرص المتعددة الأبعاد لا تساهم فقط في التنمية الاقتصادية، بل تدعم الرفاه المجتمعي والتقارب الثقافي أيضاً. ومن واجبنا تحويل هذه الفرص إلى شراكات مستدامة تنبع من أخوة صادقة بين شعبينا المؤمنين.
أغادر موريتانيا، هذا البلد الشقيق والصديق، محمّلاً بانطباعات عميقة تركت أثراً خالداً في قلبي. لقد جسّدت مشاعر الود، وكرم الضيافة، والعناية التي أُحيطنا بها أنا ووفدي طوال الزيارة، أكدت مدى رسوخ هذه العلاقات الأخوية. وأتطلع بإخلاص إلى لقاء قريب يجمعني مجدداً بأحبّتنا الذين جعلوني أشعر وكأنني في بلدي الثاني، مُعبّراً عن يقيني الراسخ بأن هذه الصداقة العريقة ستزداد رسوخاً وتألقاً في قادم الأيام..
لبروفيسور: يوسف تكين/ وزير التعليم الوطني التركي