التعديلات الدستورية و"قانون تغيير العقليات" (تحليل) | صحيفة السفير

التعديلات الدستورية و"قانون تغيير العقليات" (تحليل)

ثلاثاء, 18/04/2017 - 23:07

يبدو أن مسار المواقف من التعديلات الدستورية قد اتخذ منحنيات متباينة و في اتجاهات عدة، ما بين رافض متحمس يدعي (حرمة المساس بالدستور المقدس)، له في ذلك "منطلقاته" و قيمه وعقلياته التي يبني على أساسها رفضه المطلق أو (المراوغ) لهذه التعديلات، و ما بين داعم متحمس ، ينطلق هو الآخر من عقليات تبدو –إلى حد ما- مخالفة  بل و متناقضة مع منطلقات و قيم وعقليات الطرف الرافض.

و هناك طرفان آخران (نائمان)، أحدهما صامت متربص ينتظر، لم يتخذ بعدُ موقفا نهائيا (معلنا) في انتظار تحديد ملامح الاتجاه الغالب بعد بدء التحضير الفعلي لعملية الاستفتاء، و الدخول في معمعان معركة التصويت، و ثانيهما يبدو (لا مباليا) و كأن الأمر لا يعنيه من قريب و لا من بعيد، و ربما يظل على تلك الحال، أو ربما حملته رياح السياسة و أمواجها العاتية لتقذف به –راغبا أو مرغما- على ضفاف أحد الطرفين السابقين (الرافض أو الداعم).

انطلقت أصوات متباينة عديدة، و سال حبر غزير حول هذه المسألة، و ليس الأمر مستغربا، فالقضية قضية رأي عام، قضية شعب و قضية أمة، لا ينجو منها صالح و لا طالح ، و لا أحد يستطيع أن يكون فيها محايدا جدا (كالسكرتير العام للأمم المتحدة )، أو موضوعيا جدا (كعالم الحشرات في لندن).

الكل -لا محالة- متخذ موقفا ما من التعديلات الدستورية، سواء تبناه من الآن و ظل متمسكا به حتى آخر رمق سياسي، و سواء اتخذه آجلا ، أو أجرى عليه بعض (التعديلات) في المستقبل المنظور، يستوي في الأول فرسا الرهان الأساسيان، و يُعتقل داخل الثاني الطرفان (النائمان).

و مهما يكن من أمر، فإن كل موقف من التعديلات الدستورية - معلن أو غير معلن- يعد بدرجة من الدرجات ظاهرة سياسية ثقافية اجتماعية، يتكئ أصحابها على منظومة من القيم تتفاوت تفاوت نضج عقول أصحابها، و تتباين تباين وعيهم السياسي و مصادر تشكله، و تختلف باختلاف نظرتهم للتجديد و التغيير و (إعادة التأسيس و البناء) من جهة، و نظرتهم لما يعتبرونه حفاظا على المكتسبات و تمسكا بــ (الرموز والثوابت و المقدسات) من جهة أخرى.

و لولا (الجاهزية الفطرية) لدى بعض أنصار الطرف الرافض لتكييف كل موقف يتم التعبير عنه في هذا المضمار انطلاقا من رمي صاحبه بالارتهان لما يسمى "نظرية المؤامرة" لقلت: إن "التجاذبات" حول قضية التعديلات الدستورية تشتم في بعض جوانبها رائحة التدخل الخارجي، أو التوجيه و إدارة التحكم عن بعد، ما يعني أن أطرافا "سرية" تحاول -بشكل ما- التأثير على المواقف من خلال آلياتها التي بدأت تتحرك (حركات جيبية اهتزازية) متلاعبة بكرة المطاط "يمينا" و "يسارا" لتحدث جلبة داخل النقاش رسمت أهدافها و غاياتها بدقة و عناية فائقة!!

و الغريب في الأمر أن هذه الأطراف "السرية" صارت –في الواقع- علنية، و لم تستطع إخفاء بصماتها رغم كل المحاولات الفاشلة، و رغم "التجميل المصطنع" بالدفاع عن الدستور تارة، و التمسك بما يعتبرونه (ثوابتا و رموزا) لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها، لم تنجح الأطراف السرية إذن في طمس آثار الحضور اللاوعي حول دائرة الجدل الدائر هذه الأيام حول التعديلات!

و قد لفتت انتباهي هذه المعارضة المستميتة للتعديلات من قبل هذه الأطراف، و أثناء بحثي عن الأسباب وراء ذلك وجدتها ما هي إلا مقاومة غريبة للتغيير الإيجابي ، فما أن تبتكر شيئا أو تفكر بطريقة مختلفة عن المألوف ، إلا وتجد من يقاوم ذلك التغيير ، إما بحجة أنك لن تغير شيئاً، أو بذريعة "خالف تُعرف" ، أو بدافع "المعارضة من أجل المعارضة"  وفي الحقيقة أن اقتراح إدخال التعديلات على الدستور لا تندرج ضمن هذا الفهم ولا ذاك ، بل تمثل أحد مراحل علو الهمّة للرُقي بأفكارنا التي تصبح - رويداً رويداً- سلوكاً اعتيادياً نمارسه دون عقبات.

و لكي نخرج من متاهات الشك إلى نور اليقين، دعونا ننظر بعين العقل و الموضوعية إلى المبررات التي يحتج بها (رافضو التعديلات) فنقوم بتفكيكها و تصنيفها على أسس منظومة القيم و العقليات و المثل المشتركة بين الغالبية العظمى من الأمة الموريتانية، و ما يعتري هذه المنظومة من تطور و تجدد و تجديد منذ التأسيس الأول مرورا بالتأسيس الثاني وصولا إلى التأسيس الثالث للجمهورية الإسلامية الموريتانية الذي نعيش خطواته الحاسمة اليوم.

يقول "إينشتاين": (لن نستطيع أن نواجه -أو نعدل- المشاكل المزمنة التي نعاني منها بنفس العقليات التي أوجدت تلك المشاكل). و قد أوردت هذه المقولة هنا لأحيل القارئ المتمعن إلى فهم صحيح أصيل لمكمن مبدأ الرفض و المعارضة المرتكز أساسا على نظريات بائدة و عقليات لم بعد هناك من ينخدع ببريقها حتى صار أصحابها جزءا من المشكلة، و بمفهوم المخالفة، يدرك العقلاء أن السبل الكفيلة بتخليص بلادنا من مشاكلها المزمنة لن تتأتى –قطعا- باستمرار تلك العقليات التي أفرزت هذه المشاكل، و هذا هو ما تفطن له جيل إعادة التأسيس الجديد، و سار خلفه السواد الأعظم من الشعب الموريتاني التواق دوما إلى الخروج من "تابوهات" التبعية و التقليد الأعمى!

يقولون : لا للمساس بالدستور المقدس، و على "الكذاب" أن يمتلك ذاكرة قوية كي لا يسقط في شرك التناقض الذريع، لقد كانوا إلى وقت قريب يصمون هذا الدستور بكل عبارات الطعن و القدح، كانوا – و نحن نتذكر و هم لا يذكرون- يقولون إنه دستور "النظام المستبد" الذي أصدره سنة 1991م، و ها هم اليوم يتشبثون به و يعضون عليه بأنيابهم بعد تساقطت النواجذ و ما تبقى من الأضراس!!
يقولون : إن التعديلات "لا أهمية لها" ، و السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا هو التالي: لا أهمية لها بالنسبة لمن؟! و من الذي يحدد الأهمية و مقدارها؟! والجواب ببساطة هو أنه لا أهمية تذكر لقولهم : " إن التعديلات لا أهمية لها" و مقدار الأهمية هنا "إقليدي" كمقدار الزمان و الحركة، و تحديده يعود للشعب مصدر كل السلطات ، فانتظروا نتائج الاستفتاء لتدركوا مدى أهمية التعديلات !
يقولون : إنها – أي التعديلات- ليست محل إجماع "وطني" ، و أمرهم – في هذه- عجبٌ عُجاب! لأنهم – و قد تعودوا المقاطعة و أدمنوها – لم يشاركوا في الحوار الشامل الذي كانت هذه التعديلات أهم مخرجاته، و بمنطقهم الإقصائي الأعرج لا يعتبرون أمرا لم يحضروه محل إجماع وطني! فأي منطق هذا و أية رؤية و أية عقليات؟!! ألم يدعوا للحوار و قاطعوه بمبررات أوهى من بيت العنكبوت؟!
يقولون : لقد أسقطت التعديلات من طرف "الشيوخ"، و الحقيقة أن "الشيوخ" هم من سقط في وحل الأنانية و المصلحة الضيقة على حساب وطن أنفق عليهم من خيراته منذ نعومة أظافرهم حتى هرموا و شاخوا، و ليس تصويتهم ضد مشروع التعديلات إلا مظهرا من مظاهر الخرف السياسي ، و علامة من علامات الطمع و الجشع ليس إلا..
يقولون : إن الهدف الخفي من التعديلات هو إلغاء محكمة العدل السامية، و الواقع الذي يدركه هؤلاء "القضاة" في كنه عقولهم الباطنة ، و يتنكرون له أمام الملأ على أطراف ألسنتهم، أن ثنائية "الخصم و الحَكم" يستحيل معها أن تلعب هذه المحكمة بتشكيلتها المنصوصة أي دور قانوني نزيه في ما يُتوقع أن يثار أمامها من ملفات، إذ كيف يعقل أن يحرك النواب ملف الاتهام ثم يتولون القضاء و البت في اتهام هم من تقدم بعرائضه؟ أي حكم هذا و أي منطق و أي قانون و أية عدالة؟
يقولون : إن المادة 38 من الدستور مقيدة بأحكام المواد (99 ، 100 ،101)، و نص المادة صريح واضح  وضوح الشمس، حيث تقول المادة :(لرئيس الجمهورية أن يستشير الشعب عن طريق الاستفتاء حول أي قضية ذات أهمية وطنية) و توضيح الواضح يزيده غموضا كما يقال.
يقولون : لا أهمية للمجالس المحلية، لأنها ستكلف الدولة أعباء مالية إضافية كبيرة! و يغضون الطرف -في هذه- عن الأهمية البالغة لإنشاء المجالس الجهوية و انعكاساتها على التنمية الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، حيث سيتم تقريب الخدمات من المواطن بشكل جدي و فعال لأول مرة في تاريخ موريتانيا الحديث، و أجدني في غنى عن القول إن تطبيق سياسة اللامركزية عن طريق دعم الإدارات الإقليمية بهذه المجالس الجديدة سيدفع وتيرة عجلة التنمية بسرعة إلى مستقبل مشرق ينعم فيه المواطن الموريتاني بالحصول على الكثير من الخدمات و المصالح دون أن تُلجئه الحاجة إلى طلبها في العاصمة نواكشوط.
يقولون : لا لتغيير (العلم/الرمز) الذي وجدنا آباءنا له عابدين! فهل سألوا أنفسهم : كم كان عدد سكان موريتانيا إبان الاستقلال؟ و هل استشير الشعب حينها في اختيار علمه و سائر رموزه؟ و ما هو الفرق بين مستويات الوعي و النضج السياسيين بين الجيلين؟ و أيهما أقرب إلى الاستقلالية الحقة؟ حكموا عقولكم و لا تحكموا العواطف، و ستهتدون إلى الجواب الصحيح، فقصة العلم معروفة، و رمزية ألوانه و هلاله و نجمته معروفة كذلك، فهدئوا من روعكم، فليس في الأمر عصيان و لا هم يحزنون! كل ما في الأمر أن الأجيال الجديدة كبرت و تعلمت و تثقفت، و لم تعد تقبل التدجين و الأسر داخل المحرمات الأسطورية ، لا مساس بخضرة العلم و ما ترمز له من معان أكرهنا عليها و تقبلناها على مدى عقود طويلة، لا مساس بالنجمة و الهلال الذهبيين و ما يحيلان إليه من رمزية دينية –اقتنعنا بها أو لم نقتنع- عميقة ذات دلالات...لكن هل تسمحون لنا بتخليد و تمجيد أبطال المقاومة الذين ضحوا بدمائهم الزكية دفاعا عن الوطن و قيمه و مثله، هل تستنقصون على هؤلاء الشهداء أن يكون لهم ذكر؟! إننا ندرك جيدا أن رأس الحربة في الأطراف "السرية" ينكرون وجود أي نوع من أنواع المقاومة ضد المستعمر، و من ينكر وجود المقاومة لن يعترف -بالطبع- بدماء شهدائها أحرى أن يسعى إلى تخليد ذكرهم وكتابة تاريخهم و أمجادهم التي غيبتها العقليات البائدة ردحا من الزمن، حتى قيض الله لها من ينفض عنها الغبار المتراكم و ينقذها من براثن التهميش و النسيان المتعمد!!
يقولون إن تغيير العلم سيكلف الدولة أعباء مالية لا قدرة لخزينتنا على تحملها، و يبررون هذا القول بالحاجة إلى استبدال الرأسيات و الوثائق و إعادة طباعة الكتب المدرسية! و ما أحوجنا –فعلا- إلى إعادة طبع هذه الكتب! ... كلها في الواقع مبررات واهية لا حجية لها، بدليل أن كل هذه الأشياء يتم تجديدها و استبدالها باستمرار بغض النظر عما يطرأ على محتوياتها من تغيير!
يقولون إن العلم بشكله الجديد المقترح (قبيح!)، و العلم بشكله القديم الحالي (جميل!)، و هم بهذا القول إنما ينظرون إلى المسألة من ناحية الجمال و القبح، و هي مسألة نسبية كما هو معلوم، ينظرون إلى الألوان كدوال و لا ينفذون إلى عمق الدلالات، و لو حكموا المنطق و العقل لأدركوا ببساطة أن خضرة الألوان و حمرتها سيان ، لا فرق بينها البتة، لأنك لا تميز اللون الأخضر - مثلا - إلا بمعرفتك لونا أو ألوانا أخرى مغايرة، فهل سألت نفسك يوما : لماذا هذا اللون أحمر؟ و لماذا هذا اللون أخضر؟ أو أبيض أو أسود؟ المشكلة ليست في اللون كما هو، و إنما في الأثر الذي يتركه في نفس الرائي، و في المعاني و الإيحاءات ذات الأبعاد الرمزية المعبرة التي تتركها فينا الألوان عندما تسافر في مخيلتنا التاريخية و الحضارية خلال سيرورة الزمن ثلاثية الأبعاد (الماضي – الحاضر - المستقبل)، و العلم بشكله الجديد تعبر ألوانه عن هذه الأبعاد مجتمعة دون أن تكون هناك نظرة "إقصائية" –كما في السابق- لأي مكونة من مكونات مجتمعنا الموريتاني الأصيل!! فدم الشهداء (مقاومين و جنودا) سيبقى محفورا في الذاكرة الجمعية للشعب الموريتاني كلما وقفنا لتحية العلم، و كلما شاهدناه خفاقا يرفرف عاليا فوق رؤوسنا و هامات جنودنا البواسل. إن عرض العلم بشكله الجديد على الشعب من خلال الاستفتاء أمر لا تراجع عنه، فما الذي يخيفكم إن كنتم واثقين؟! لنترك الشعب يقرر..لنتركه يمارس حقه الذي لم يمارسه من قبل في اختيار علمه الذي يرضيه. هل سيختار العلم الذي يحافظ على الرمزية المعهودة و يشذبها و يهذبها بتمجيد دماء من ضحوا بأرواحهم دفاعا عن الوطن؟ أم سيختار علما لم يشترك في اختياره في الأصل؟! لنترك الشعب يجيب عن طريق الاستفتاء، و لنتقبل النتائج بروح رياضية.

يعزف البعض في قضية العلم على جوانب مظلمة من تاريخ مجتمعنا، و يراهن أن الحمرة في العلم الجديد لن تكون محل ترحيب لدى بعض المجموعات..إنهم يتطيرون من اللون الأحمر (و طائرهم معهم) ، إنهم يتشاءمون منه، و هذا -لعمري- مما يزيد تحمسنا للقضاء على مثل هذه العادات الخرافية البائدة!! فتغيير العلم تغيير للعقليات البائدة!

يقولون لا لتغيير (النشيد/الرمز) الذي وجدنا أجدادنا له حافظين! و الحقيقة أنه لا جدال في عمق المعاني السامية و القيم النبيلة التي يدعو إليها النص الذي كتبه بابا ولد الشيخ سيديا بعقود قبل الاستقلال، و مناسبة هذا النص معروفة و معلومة لدي الباحثين المحققين، و إن كان قد تم تحريفها مؤخرا من قبل أطراف غير محايدة، كما تم التعتيم المقصود على جوانب كبيرة من تاريخ موريتانيا من قبل بعض الأطراف التي احتكرت لنفسها دور التعلم و التعليم ردحا من الزمن، و طفق بعض "مشايخها" يسطرون التاريخ –على أمزجتهم- انطلاقا من نتائج بعض الوقائع و الأحداث الكبرى التي لم تكن تصب في صالحهم، فاستغلوا غفلة الزمن و انشغال بعض مكونات الشعب الموريتاني بحماية الثغور و الذود عن الحمى و توفير جو الأمن (لأهل العلم و طلابه)، استغل هؤلاء "الأنحاب" تلك الفترة الفارقة من تاريخ موريتانيا ليؤلفوا و يدونوا و يلقنوا بعض الأجيال معارف تحمل في ثناياها الكثير من المتناقضات، و تبتعد كل البعد في مقدماتها و نتائجها عن القراءة الواعية لأحداث التاريخ!

كاتب النشيد هو عاقد المعاهدات المشهورة مع المستعمر، و هو الممهد –مع غيره- لدخول الحاكم الفرنسي أرض موريتانيا...هذه حقائق لا ينكرها أحد، لأن شواهدها قائمة، و الذي كان منها مستورا أو مغيبا صار اليوم مكشوفا مشاعا بين الناس، و إن اختلف الباحثون في تفسير ظاهره و باطنه.

و من زاوية أخرى، لا مراء في سمو منزلة الشيخ سيديا بابا العلمية و الأدبية، و لا أحد يستطيع إنكار بعض أفضاله و أسرته الكريمة على عامة الشعب الموريتاني قديما و حديثا و في المستقبل، فهو طود شامخ عم صيته الآفاق ، وعلم من أعلام شنقيط – رغم مأخذ الفتوى حول نازلة الاستعمار- لا يشق له غبار.

و بعد، فإنه من حق الشعب الموريتاني اليوم أن يختار نشيدا "وطنيا" بكل ما تحمل الكلمة من معنى، و ليس هذا من باب طرح النشيد الحالي شكلا و مضمونا، و إنما من أجل أن يكون لنا نشيد يجمعنا و نرى فيه ذواتنا و تمثل فيه قيمنا و موروثنا الحضاري بكل أبعاده و ألوانه، نريد نشيدا ملحميا خالدا يثير مكامن الحماسة في النفوس و الأفئدة، يشعرنا -عندما تشرئب أعناقنا طربا-بالانتماء لوطن لا إقصاء فيه و لا تهميش لأي مكونة من مكوناته، نريد نشيدا يلهب حماس الجنود و الرياضيين و الأطفال و عامة الشعب، و يوقد في النفوس شعلة الوطنية الحقة.

سيقول بعضهم : إن النشيد الحالي يحمل قيما و مثلا إسلامية رفيعة تدعو إلى التمسك بسواء السبيل و جادة الحق، وهم في ذلك محقون، و سيقولون إنه النشيد الوطني الوحيد الذي يحمل في ثناياه آية من القرآن الكريم، مع أن آي القرآن الكريم لم ينزل من رب العالمين ليعزف و يغنى و يلحن في مناسبات عديدة كالمناسبات التي يعزف و يغنى فيها أي نشيد وطني لأية دولة في العالم!

و قد بلغني أن أحد الأئمة "الفقهاء" أفتى بحرمة تغيير العلم و النشيد، و هو إسراف في الفتوى جد مريب، و تكييف فقهي لقضية غير فقهية، أو على الأصح، لا يفقه "إمامنا" أبعادها و مراميها و مقاصدها العميقة، و نلتمس له العذر و أحسن المخارج عندما نكتشف أنه أطلق فتواه هذه مدفوعا بتوجيه من الأطراف "السرية" التيسنفصل الحديث عنها أدناه.

نص الشيخ سيديا بابا لا يعدو كونه مقطوعة شعرية تحمل نصائح و مواعظ و إرشادات دينية، يمكن أن تقرر ضمن المناهج الدراسية في المرحلة الأساسية ضمن قائمة (الأناشيد و المحفوظات) التي تزود الطفل بثروة لغوية و تبعد عنه الخجل و تشعره بالانسجام، ليس إلا..

و لعل ما يشاع حول اعتماد نشيد رسمي بديل يدخل تحت طائلة التوتير و إذكاء الصراعات المذهبية، و هو أمر مشكوك في صدق نيات من يقفون خلفه، فالنشيد الجديد ينبغي أن يختار بعد تنصيب لجنة فنية علمية من أهل الفن و الاختصاص، و يجب أن تحدد له شروط و معايير فنية شكلية و موضوعية، و تحدد كذلك شروط واضحة و شفافة للمتسابقين في إنتاجه، حتى يخرج غضا ناصعا محككا يرضي به الجميع.

تظن بعض الأطراف "السرية" أن رئيس الجمهورية و أغلبيته لما اقترحوا تعديل العلم و تغيير النشيد، كانوا بذلك الموقف يوجهون ضربة "قاسية" لجهة معينة من جهات البلاد، أو لمجموعة محددة من مجموعات البلاد، تعتبر كلاهما أن النشيد نشيدها و العلم علمها...هذا ما يتم تداوله (على الخاص)، و هو تصور خاطئ تماما و بعيد من الواقع، فالرئيس و أغلبيته في حل من هذا الاتهام الباطل المؤسس على باطل، لأن النشيد "وطني" و لا ينبغي له أن يكون ملكا لمجموعة معينة و لا لجهة محددة، و لأن العلم "وطني" كذلك .

و لعل هذه الرؤية الضيقة التي تنظر بعض الأطراف "السرية" إلى مسألة التعديلات الدستورية من زاويتها، هي السبب في ظهور بعض الأصوات القبلية و الجهوية التي طفت مؤخرا على سطح التجاذبات، حتى بلغ الأمر ببعضهم ما بلغ، من دعوة صريحة باسم القبيلة تارة، و باسم الإمارة تارة،  و أحيانا باسم الجهة! و هو أمر منبوذ و مرفوض و مردود، لا ينبغي التساهل في لجمه و الوقوف في وجهه و إيقافه عند حده.
إن الأصوات القبلية و الجهوية التي بدأت ترشح مؤخرا هنا و هناك، في خضم هذا الحراك، و في سياق الجدل المتنامي حول التعديلات الدستورية ، سواء أ كانت في صف الطرف الداعم أو في صف الطرف الرافض، هي دعوات مرفوضة جملة و تفصيلا، شكلا و مضمونا..و لا يخفى على المتابع الفطن للشأن العام ما لهذه الدعوات من انعكاسات سلبية على هيبة الدولة و مكانتها و قوتها، كما لم يعد خافيا أيضا على كل ذي بصيرة أن الأطراف المعارضة للتعديلات ، و بعد فشلها الذريع في تسويق حججها و تبريراتها غير الموفقة، لم يتبق أمامها من سبيل سوى ركوب هذه الأمواج ، حالمة بالوصول إلى تحقيق بعض المكاسب على حساب اللحمة الاجتماعية و وحدة الوطن، و هو أمر خطير جدا يستدعي الوقوف ضده بعزم و حزم.
ينبغي للساسة أن يخوضوا حملاتهم بعيدا عن إذكاء النعرات القبلية و الجهوية، و ينبغي لهم أن يشرحوا مواقفهم من التعديلات في إطار حزبي خاص أو عام، و لا ينبغي للدولة بكامل أركانها أن تخضع للضغوط القبلية أو الجهوية ، أو تستكين لها بأي شكل كان، لأنها إن قبلت ذلك فإنها تمكن راكبي هذه الأمواج من أنفها لتمرغه في التراب، و إن أطلقت الدولة العنان لمثل هذه الدعوات بدافع حرية التعبير "الزائدة"، فسيختلط الحابل بالنابل و ربما تخرج الأمور عن السيطرة لا قدر الله.

لذا، يجب على الدولة أن تعاقب بصرامة كل من يروج هذه الدعوة القبلية الجهوية الطائفية المقيتة.

نعم للتعديلات الدستورية، وحفظ الله موريتانيا من كيد الكائدين .

 

علي المختار اكريكد

أكجوجت، 18. 04. 2017