كيف تواجه موريتانيا مافيا الفساد والجريمة المنظمة؟ | صحيفة السفير

كيف تواجه موريتانيا مافيا الفساد والجريمة المنظمة؟

ثلاثاء, 25/10/2016 - 13:53

لم تعد صالونات انواكشوط وأروقة السياسة والإعلام منشغلة هذه الأيام بمواضيع من قبيل التعيينات والتحالفات السياسية وفضائح الفساد الإداري والمالي.. فالجميع مهتم اليوم بموضوع واحد تجاوز فضاء النخبة ليفرض نفسه على الرأي العام الوطني بجميع مستوياته؛ بما فيها الأسواق والشارع وحتى البيوت.. سؤال يتردد على كل لسان وفي كل لحظة: إلى أين تسير موريتانيا؟.. ولعل غياب أي مؤشر على إجابة -ولو افتراضية- على هذا التساؤل، وضبابية الأفق المنظور؛ على الأقل في ظل امتناع أو عجز السلطات العمومية عن تقديم أي عنصر للإجابة، ولدا انطباعا لدى شرائح عديدة من الرأي العام بأن البلد يعيش أزمة خانقة أو خللا خطيرا قد يدفع إلى المجهول..

بدأت هذا الأسبوع حملة لتوقيف السيارات التي لا تحمل لوحات ترقيم قانونية، وبررت السلطات المعنية هذا الإجراء بتزايد أعداد السيارات المهربة، داخل البلد، وتنامي ظاهرة الجريمة التي يعمد مرتكبوها إلى استخدام سيارات غالبا ما تكون مسروقة، أو لا تحمل أرقاما تمكن من التعرف عليها خلال البحث والتحقيق..

حملة إدارة المرور التي تسهر على تنفيذها مفوضية المرور وعناصر الشرطة داخل المقاطعات، انطلقت مطلع هذا الأسبوع ومكنت حتى الآن من توقيف عشرات السيارات ووضعها قيد الحجز، بعد أن تكشف أن أصحابها لا يملكون وثائق ملكيتها (البطاقة الرمادية) أو لديهم بطاقات رمادية مزورة، أو غير مطابقة لرقم السيارة الأصلي المثبت على هيكلها من قبل المصنع.

ويبدو أن اختناق شوارع وطرقات العاصمة كان وراء الاهتمام بمسألة تنظيم وتقنين حركة السير؛ خاصة مع اكتشاف شبكات لتزوير بطاقات ملكية السيارات تمارس نشاطها بتمالؤ واضح من جهات داخل مصالح إدارة النقل وأخرى خارج الدوائر العمومية.

وفي السياق يأتي اعتقال مجموعة من ممتهني هذا النوع من التزوير مؤخرا، ليظهر التحقيق معهم أنهم استطاعوا الحصول على ختم الجهة التي تصدر وثائق ملكية السيارات من خلال التعامل مع مطابع محلية صغيرة، ومحاكاة التوقيع المطلوب، أو استنساخه بواسطة جهاز المسح الضوئي (اسكانير).

ومعروف أن ظاهرة السيارات المهربة من بلدان الجوار -وحتى من أوروبا- ظاهرة غير جديدة.. حيث تنشط شبكات متمرسة من مهربي السيارات في المنطقة الرابطة بين المغرب وموريتانيا، بشكل تزايدت وتيرته في الأعوام الأخيرة بشكل ملفت.. ورغم دخول هذه الأعداد المتزايدة من السيارات المهربة إلى الأراضي الموريتانية، إلا أن أصحابها لا يجدون أية صعوبة في بيعها على الفور لتدخل طابور سيارات النقل العمومي أو الخصوصي؛ أو لتتوقف في معارض للسيارات تنشر في مناطق متفرقة من العاصمة، تواضع الناس على تسميتها بالبورصات..

ويكفي أن يمر المرء على الشارع الرابط بين مقاطعتي لكصر وتفرغ زينه، أو طريق انواذيبه، أو طريق عرفاته، ليجد نفسه أمام كم كبير من مختلف أنواع السيارات يوهمه للوهلة الأولى أنه في موقع آخر من هذا الكوكب، يجد فيه آخر صيحات مصانع السيارات الأوروبية واليابانية جنبا إلى جنب مع سيارات متحفية وشاحنات تعود إلى بدايات القرن الماضي!

بيد أن الجديد في المسألة يبقى التطور الحاصل في أساليب مهربي السيارات وملاك ووسطاء "البورصات" والمتمثل في تمكنهم من تجاوز شبح الملاحقات الجمركية وحملات التفتيش -على ندرتها ومحدودية فاعليتها- وتحقيق نوع من الاستقلالية أو الاكتفاء الذاتي في هذا المجال عبر تزوير بطاقات رمادية تغنيهم عن البحث عن بطاقات رمادية لسيارات خرجت من الخدمة قصد شرائها ووضع رقمها على اللوحات المعدنية للسيارات المهربة.

حملة مكافحة سوء ترقيم السيارات وتزوير وثائقها، ولدت العديد من التساؤلات لدى المهتمين بالموضوع؛ لعل من أبرها تلك المتعلقة بمدى جدية السلطات المختصة في تطبيقها، وبعبارة أدق، مدى قدرتها على تنفيذها بشكل صارم وذي مصداقية؛ علما بأن نجاح هذه الحملة لا يتوقف على مجرد فرق من أصحاب القبعات البيضاء أو الداكنة عند ملتقيات الطرق أو في الشوارع الرئيسة، ولا على مطاردات بهلوانية بالدراجات النارية؛ وإنما أكثر من ذلك على إجراءات أكثر فاعلية وأكثر استمرارية، من قبيل "إصلاح الحالة المدنية للسيارات" كما يقول صاحب ورشة لترقيم السيارات؛ إجراء يعيد إلى الأذهان عملية إصلاح الحالة المدنية، وبطاقة التعريف الوطنية غير القابلة للتزوير.. لكنه يعكس بجلاء ما وصل إليه قطاع المرور في بلادنا من فوضوية تشبه ما وصلت إليه الحالة المدنية في الثمانينات وبداية التسعينات من القرن المنصرم؛ لكن تنظيم إحصاء للسيارات بهدف إصلاح "حالتها المدنية" وتحديد مهلة لسحب جميع البطاقات الرمادية على عموم التراب الوطني واستبدالها بأخرى غير قابلة للتزوير قد يتطلب تعبئة إمكانيات مادية وبشرية لا تندرج ضمن أولويات حكومة الزين ولد زيدان، في الوقت الراهن على الأقل..

لب القضية

السلطات العمومية تلقي باللائمة على مستوردي السيارات ومهربيها الذين يتحايلون على الجمارك ويتهربون من أداء واجبهم الضريبي.. والواقع أن حرص السلطات على حصر أسباب ظاهرة التهريب في التحايل على الضرائب والجمارك، إنما يعني إقرارا -ضمنيا- بالفشل أو الإهمال في تحمل مسؤولية الرقابة وفرض الصرامة في التسيير وإرساء مبدأ العقوبة والمكافأة، والقضاء على كافة مظاهر الرشوة والفساد، واستغلال النفوذ.

وفي المقابل يُحمّل تجار السيارات ومستوردوها الدولة مسؤولية ما وصلت إليه الأمور من تفاقم في هذا المجال.. ويدعم هؤلاء طرحهم من خلال الحديث عن ارتفاع التعرفة الجمركية الخاصة بالسيارات في موريتانيا مقارنة ببلدان الجوار؛ فضلا عن ارتفاع تكاليف الإيداع والعبور في ميناء انواكشوط.. ويؤكد عدد من أصحاب بورصات السيارات في العاصمة، أن الزيادات المجحفة -حسب قوله- في تكاليف الجمركة أرغمت مستوردي السيارات على انتهاج أساليب التهريب لتفادي الخسارة؛ على اعتبار أن ثمن السيارة الأصلي إذا ما أضيفت له هذه التكاليف المرتفعة سيحولها إلى بضاعة غير قابلة للبيع حتى برأس المال؛ خاصة وأن أسعار السيارات الجديدة لدى ممثليات مصانع السيارات تكون أرخص منها؛ إضافة إلى تدني القدرة الشرائية لدى الباحثين عن سيارات مستعملة مستوردة.

ارتفاع تكاليف جمركة السيارات، والنقل البحري، وتكاليف رسوم الميناء والتفريغ، هي -في نظر من يبيعون السيارات في موريتانيا- الأسباب الرئيسة وراء تنامي ظاهرة تهريب السيارات؛ وحتى شحنها بطرق عادية إلى موانئ مجاورة كميناء داكار، ليتم -فيما بعد- إدخالها إلى موريتانيا عن طريق البر.

وأيا كانت أسباب تنامي ظاهرة التهريب فإن أيا منها لا يمكن أن يبرر الانعكاسات السلبية الجمة لهذه الظاهرة المتجذرة في بلادنا. كما لا يمكن للدولة -ممثلة في مصالحها الجمركية والأمنية والإدارية والتشريعية- أن تتملص من المسؤولية التي هي مسؤوليتها بالدرجة الأولى، ويتعين عليها تحملها ومعالجة تبعاتها بشكل عميق ومدروس وشامل، حتى يكون مستديما؛ ذلك أن الحملة الراهنة وما يطبعها من استعراضية وصرامة زائدة، لن يكون رادعا ولا ناجعا ما لم تصاحبه إجراءات وإصلاحات جوهرية تبدأ بالتحكم في لوحات أرقام سيارات الدولة والسيارات الدبلوماسية وسيارات الهيئات البرلمانية.. وغيرها من السيارات الخاضعة لنظام خاص، وفرض نظام المأموريات على هذه السيارات خارج أوقات الدوام الرسمي أو خارج العاصمة، أو أماكن تواجد مقرات هذه الهيئات..

وإذا كانت الحملة الحالية ستسفر عن استرجاع موارد الخزينة الدولة من خلال إرغام أصحاب السيارات الموقوفة على تسديد الرسوم الجمركية وغرامات المخالفة، فإنها قد تدافع باتجاه الحد من حجم واردات السيارات ومن ثم تناقص مصادر الدخل للعديد من المواطنين الناشطين في مجالات النقل الحضري، والنقل بين المدن، وتسويق السيارات، والورشات الميكانيكية..

وهكذا يعتقد بعض المحللين الاقتصاديين أن انتهاج سياسة أكثر مرونة، وسن قوانين تخفف من الضرائب والرسوم الجمركية المفروضة على السيارات؛ مع ضبط عمليات إصدار البطاقات الرمادية، وإجبارية الفحص التقني والتأمين ودفع الضرائب، وتحسين أداء المصالح الأمنية والجمركية في مجال التفتيش والمراقبة.. كلها عوامل من شأنها ضمان مرور السيارات المستوردة عبر القنوات المعهودة؛ وبالتالي تأمين أحد أهم روافد خزينة الدولة وموارد موازنتها العامة.

اسلوب تسيير الأزمات

موضوع حملة السيارات الراهنة نجح في لفت انتباه الرأي العام الذي لم يعد يتحدث هذه الأيام عن سوى الشرطة، والبطاقات الرمادية، ولوحات الترقيم، وتهريب السيارات..

اهتمام غير مرشح للاستمرار طويلا مهما طال أمد هذه الحملة؛ فالرأي العام الموريتاني معروف بانشغاله بالأمور في بداياتها وتناسيها فور بروز موضوع آخر مهما كانت نوعيته أو بساطته.. فموضوع فضيحة طائرة المخدرات الذي هز البلد وشغله على كافة الصعد، غاب اليوم عن أحاديث الناس رغم أنه ما يزال مفتوحا ولم تف السلطات حتى الآن بوعدها المتعلق بكشف كافة ملابساته للجمهور.. ومسألة عودة المبعدين التي حركت الساحة السياسية والثقافية بمختلف أطيافها، لم تعد يحتل الصدارة في اهتمامات الرأي العام بعد حمى الندوات والحوارات والبيانات التي طغت منذ خطاب الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله قبل حوالي شهر؛ والذي أعلن فيه رسميا عن عودة هؤلاء..

وكان حادث إحراق بعض الأقمشة والأعرشة وبعض مخلفات "الگزرة" على يد سلطات مقاطعة عرفات مؤخرا حديث الساعة طيلة الأسبوع الماضي.. واليوم تأتي دعوة رئيس الجمهورية للموريتانيين إلى إقامة صلاة الاستسقاء لتفتح صفحة جديدة في أجندة اهتمامات الموريتانيين حتى إشعار جديد..

بيد أن الرأي العام الوطني المتطلع دائما لما هو جديد من مواضيع تعود عدم انتظار ما يشغله طويلا؛ الأمر الذي ولد قدرة خارقة لدى الموريتانيين في مجال اختلاق مواضيع الساعة عبر نسج الشائعات وترويجها، إن لم تجد السلطات العمومية ما تقدمه له في هذا المجال..

فهل تعني سلسلة الإجراءات الأخيرة وتسارع وتيرتها أن الحكومة الحالية قد اهتدت إلى الوسيلة الأنجع لشغل السكان عن أزمات المياه والكهرباء وغلاء المعيشة وانتشار ظاهرة المخدرات.. ريثما تجد لهذه المشكلات الحادة حلولا ولو مؤقتة؟ وهل كان امتحانا تقويم المدرسين، وحملة القضاء على الكلاب الضالة مجرد حلقات في هذا المسار الذي يدعو لاستمرار التساؤل العام: "إلى أين تتجه موريتانيا؟".

 

السفير : العدد 565 بتاريخ : 27 يوليو 2007

السالك ولد عبد الله