الطبقة السياسية في موريتانيا: إفلاس برامج.. أم أزمة خطاب؟ | صحيفة السفير

الطبقة السياسية في موريتانيا: إفلاس برامج.. أم أزمة خطاب؟

اثنين, 24/10/2016 - 11:47
صورة تخدم النص

أظهرت الطبقة السياسية الموريتانية - مجددا- عدم قدرتها على التعاطي مع الأحداث الوطنية الكبرى، واتخاذ المواقف اتجاهها بشكل منسجم وقابل للاستيعاب..

ويبدو أن ما تشهده الساحة الوطنية من تطورات تلاحقت وأحداث غير مسبوقة، أظهر ما تعانيه التشكيلات السياسية الموريتانية من نقص في الرؤية الاستراتيجية وفشل في رسم معالم مسارها النضالي ومشاريعها المجتمعية..

ومع أن حالة التيه وضبابية البرامج والأهداف، وتحجر الخطاب السياسي، لم تكن وليدة مرحلة ما بعد التاسع عشر من إبريل، فإن المعطيات التي أفرزتها تحالفات الشوط الثاني من رئاسيات مارس الماضي، أماطت اللثام عن أزمة حقيقية في بنية الخطاب السياسي في البلد، وعن خلل كبير في طبيعة الرؤية والأهداف التي يتبناها سياسيونا..

أدى وصول العسكر إلى السلطة في موريتانيا قبل 29 عاما وانتهاء نحو عقدين من نظام الحزب الواحد، إلى تفكك الطبقة السياسية وانخراطها في العمل السري من جديد، لمعارضة أي حاكم ترى أنه يقصيها عن كعكة السلطة، ودعم وتدبير أي عمل من شأنه إنهاء أيامه في السلطة، لتسارع إلى مساندة خلفه وتسويقه للرأي العام وتبرير كل تصرفاته "النيرة"..

وأثناء هذه المرحلة الاستثنائية من تاريخ موريتانيا السياسي بدأ المشهد السياسي ينقسم على أساس أيديولوجي قائم على نظريات خارجية المنشأ والطرح، ضيقة الأفق والرؤية.. يساريون، قوميون (عرب وزنوج) فئات تشعر بأنها مهمشة (الحر) وإسلاميون..

ومع انطلاق مسار دمقرطة الحياة السياسية مطلع تسعينات القرن الماضي، عمد الرئيس معاوية ولد الطايع ورفاقه في لجنة الخلاص العسكرية إلى تفكيك كل هذه التيارات من خلال اختراقها وضرب بعضها بالبعض الآخر، وتدجين العديد من قادتها التاريخيين، وانتهاج سياسة العصا والجزرة، والعزف على أوتار التنوع العرقي والجهوي والقبلي..

وأدى ذلك إلى "الانفتاح" الديمقراطي، المصاغ حسب مقاس النظام -وبضغوط خارجية وداخلية- إلى بروز تشكيلات سياسية التف بعضها حول سيد البلاد فيما حمل الباقي لواء المعارضة والتغيير.. وقامت رؤية  و"استراتيجية" كل الفسطاطين على "حماية عرين النظام" من جهة، وعمل كل شيء لإزاحته من جهة ثانية..

وتركز خطاب المعارضة على التشكيك في شرعية السلطة وعلى تبني قضايا كل المظلومين والمهمشين داخل المجتمع مهما كانت، وأيا كان انتماؤهم..

أما خطاب الأغلبية فلم يزد على اجترار مواقف "التأييد المطلق للقائد الملهم رمز الهوية والأمن والاستقرار والرفاهية"..

كان النشاط السياسي والتعاطي الديمقراطي يقومان بالدرجة الأولى على أن يظهر كل طرف أن جماهير الشعب تقف في صفه، وأنه هو من يمثل الأغلبية والشرعية.. فمهرجانات أحزاب المعارضة -على قلتها- أظهرت اتساع شعبيها في كل مرة، وأنشطة السلطة وجولات الرئيس في كل نقطة من تراب الجمهورية، تظهر كذلك أن الشعب كله يلتف حوله..

وبين الاندفاع وراء خطاب يلهب مشاعر الجماهير ويتبنى قضاياهم، والهرولة وراء الامتيازات والمغريات والترغيب والترهيب، اخفت ملامح الرؤية الاستراتيجية والخطاب السياسي الوطني المنسجم.

فقدان البوصلة

مع استمرار الأمور على حالها لأزيد من 13 سنة، ومع تزايد اتساع الهوة بين النظام والمعارضة، وانسداد الأفق لبروز طبقة سياسية ذات خطاب يتجاوز الثنائية القطبية، وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية في البلد.. بدأ الرأي العام الوطني يفقد الثقة في قادته السياسيين ويحملهم -كل من جانبه- مسؤولية الانهيار الاقتصادي، والانسداد السياسي والتدهور الأمني.. وبلغت الطبقة السياسية مستوى من إفلاس الخطاب ومحدودية الرؤية بات معه أغلب الموريتانيين يبحثون عن مخرج جديد، أيا كان مصدره، ويبدو لديهم أي أمل في التغيير الذي يحلمون به على يد أي من أطراف اللعبة السياسية.. وأحيت محاولة انقلاب 8 و9 يونيو 2003 هذا الأمل الذي بات الجميع يتمنى في قرارة نفسه أن يأتي بأقل الخسائر الممكنة..

التذمر لم يكن وليد سياسات النظام الحاكم آنذاك فحسب؛ وإنما أيضا بفعل فشل المعارضة في انتهاج أسلوب يبعد عنها تهم البحث عن نصيب ما في امتيازات الدولة.. تلك التهم التي غذاها حزب السلطة بكل ما لديه من وسائل وإمكانيات مادية ومعنوية هائلة، وساهمت المعارضة نفسها في ترسيخها بأذهان الكثيرين.. فمسلسل الخلافات بين التشكيلات المكونة لهذه المعارضة، وسلسلة الانسحابات المتلاحقة في صفوفها.. رسخا في الذهنية الجمعية للموريتانيين أن نهج المعارضة ليس سوى سبيل لبلوغ مآرب نفعية وامتيازات خاصة..

ولم يكد نظام حزب الدولة يختفي –فجأة- بفعل انقلاب الثالث من أغسطس 2005، حتى بدت الطبقة السياسية، في سباق محموم باتجاه التقرب من الحكام الجدد رغم كونهم كانوا ضمن التركيبة الأساسية للسلطة التي أزاحوا رأسها..

وهكذا التقى الخصمان للدودان في ميدان واحد باتجاه بوابة القصر الرمادي وجلسا جنبا إلى جنب مصغيين بكل خشوع وانضباط للرئيس الجديد.. معارضة وقعت له على بياض، وأضفت عليه شرعية ربما لم يكن يتوقع اقتناع شركاء موريتانيا الخارجيين وسادة المشهد الدولي بها..

وأغلبية "باركت" الخطوة واعتبرتها تحركا تصحيحيا لمسار بدأ يتلكأ ويحيد عن الوجهة الصحيحة.. حينها سادت الدهشة والانبهار مختلف أوساط الرأي العام.. فحملة لواء التشكيك في شرعية ولد الطايع، وإلصاق صفة "العقيد" به ووصف فوزه في الانتخابات الرئاسية ثلاث مرات متتالية بالانقلاب المبطن هم أول من يدعمون مجلسا كاملا من "العقداء" نفذوا انقلابا عسكريا محكما واحتفظوا ببزاتهم وابتعدوا عن العمل السياسي..

ولئن كانت تشكيلات سياسية قليلة أبدت بعض التحفظات على برنامج ما عرف بالمسار الانتقالي، فإن المعارضة التقليدية الأكثر حضورا في الساحة، اندفعت بكل حماس واستعداد في تأييدها غير المشروط لسلطات المرحلة الانتقالية؛ أما "حماة مكاسب" النظام السابق ومنظرو حملات الحزب الجمهوري وقوافله ومبادراته "الخلاقة" فسارعوا إلى الإلقاء بأنفسهم دون تردد داخل قطار المرحلة الانتقالية..

اجتماع النقيضين حول المجلس العسكري لم يكن له غير تفسير واحد؛ فالمعارضة رأت في إزاحة نظام ولد الطايع تحقيقا لهدف طالما ناضلت من أجله، مثلما رأت في تحديد جدول زمني لانتخابات "شفافة ونزيهة" فرصة العمر للوصول إلى دفة الحكم؛ أما أنصار السلطة السابقة فجاءوا إلى "المائدة" مدفوعين بغريزة التأييد الأعمى لمن يتربع على كرسي الرئاسة، من جهة، ولـ"قناعتهم الراسخة" باستحالة تخلي من وصل لهذا الكرسي عنه بشكل كامل ونهائي، من جهة ثانية..

ومنّى كل الطرفين نفسه بأن يتخذه المجلس العسكري غطاء يستمر من خلاله في حكم البلاد ضمن نظام ديمقراطي تعددي ظاهره الشفافية والحياد، وباطنه تدخل وتوجيه وتحكم؛ ولكل من الجانبين ما يبرر به تصوره وأحلامه الذهبية.

فخصوم النظام السابق يعتقدون أن من أطاحوا به لا يمكن أن يعتمدوا على أنصاره السياسيين، وبالتالي لا خيار أمامهم غير قبول عرض طوعي جاءهم على طبق من فضة.. وفي المقابل يتصور الجمهوريون وأغلبيتهم الرئاسية أن قادة البلد العسكريين هم في الواقع جزء من النظام السابق، وأخوة في السلاح لرئيسه الذي انقلبوا عليه. ومن هنا فما دام الهدف إبعاد رأس النظام والإبقاء على مكوناته الأخرى، فلا يوجد أفضل من تسليم السلطة بهدوء وسلاسة وشفافية ظاهرة، لمن كانوا فيها أصلا باعتبارهم أقرب للمجلس العسكري وحكومته الانتقالية من أي طرف آخر..

بيد أن القادة العسكريين الانتقاليين خيبوا آمال الجميع، وفاجأوهم بتنظيم انتخابات بلدية ونيابية شهدوا لهم جميعا بشفافيتها، مثلما شهدوا لهم بالحياد الكامل خلالها؛ وأخيرا جاء الاستحقاق الرئاسي لينجح العسكر -مجددا- في استدراج نحو عشرين مرشحا تأهل منهم اثنان يمثل أحدهما المعارضة والآخر مستقل، التفت حوله قوى الأغلبية السابقة بأحزابها ومستقليها.. وشكلت تلك الثنائية القطبية امتدادا للمرحلة السابقة من التعاطي السياسي بين السلطة والمعارضة؛ ذلك أن المعارضة انضوت تحت لواء أحمد ولد داداه الذي اعتبرته الأقرب إلى الفوز؛ نظرا لما أكده قادة البلاد الانتقاليون من حرصهم على الشفافية والحياد، من جهة، وحرصا على الابتعاد عن مرشح تلتف حوله القوى الداعمة لنظام ما قبل الثالث من أغسطس 2005 من جهة ثانية؛ أما سيدي ولد الشيخ عبد الله فوجد نفسه محاطا بكل أطياف أغلبية الرئيس السابق معاوية ولد الطايع التي حرصت على دعم أي مرشح قادر على منع ولد داداه من الوصول إلى السلطة من جهة، ويبعث على طمأنة السلطات الانتقالية وشتات السلطة التي سبقتها من جهة ثانية..

فاز ولد الشيخ عبد الله في نهاية السباق الرئاسي، وانقشع غبار المعركة الانتخابية عن مشهد سياسي مختلف عما كان عليه في السابق؛ المعارضة خرجت بحجم أقل بعد أن خسرت المعركة.. ومعها التحالف الشعبي التقدمي؛ لكنها لملمت مكوناتها وسارعت إلى الانتظام من جديد، مستفيدة من كتلة برلمانية معتبرة، ومن تناثر الأغلبية الداعمة للرئيس الجديد.. ومع أن أطراف هذه الأغلبية "غير المصنفة" ظلت متمسكة بدعم خيارها، إلا أنها لم تنجح في وضع تصور لنهجها وبرنامجها السياسي للمرحلة القادمة..

وهكذا ظهرت ثنائية قطبية "معدلة" بدأت زعامة المعارضة فيها تطلق إشارات تعيد للأذهان خطابها في مرحلة 1992 – 2005 مؤداها أنها غير مقتنعة تماما بنزاهة وشفافية الاستحقاق الرئاسي الذي أقر زعيم المعارضة بنتائجه سريعا، مثلما زكى من قبل خطوات السلطة الانتقالية.

وبدورها بدأت القوى المكونة للأغلبية الحالية تدعو إلى الانتظام في إطار سياسي واحد يجمعها ليكون لموالاتها معنى وتأثير في الساحة..

فأنصار الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله يتحركون في كل اتجاه لجمع كتلة المستقلين من نواب وشيوخ وعمد ومستشارين بلديين حول طاولة واحدة للإعلان عن ميلاد تشكيلة سياسية تجمعهم.. وأنصار الوزير الأول الزين ولد زيدان يسعون للالتقاء في إطار مماثل أو الانضمام إلى أنصار الرئيس في حزب واحد؛ أما التحالف الشعبي التقدمي فلا يهمه من الأمر سوى الاستمرار في التوليفة الحالية التي منحه دعمه لرئيس الجمهورية نصيبا معتبرا فيها..

وفي انتظار ما تسفر عنه تجاذبات الساحة السياسية في ظل مؤثرات عودة الثنائية القطبية ذاتها، يبدو تشكيل إطار سياسي بدعم الرئيس والحكومة أولوية ملحة في نظر كتلة "الميثاق" والمستقلين؛ بينما تظل المعارضة حريصة على أن تشرك في معالجة قضايا من قبيل عودة المبعدين الزنوج، والتحقيق في وجود معتقلات سرية مزعومة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في موريتانيا..

وبين هذا وذاك لا تجد المشكلات الجوهرية واليومية التي تمس ظروف حياة المواطنين من يتبناها أو يعمل على معالجتها أو تشخيصها على الأقل (أزمة مياه الشرب، مشكلات التزود بالكهرباء، ارتفاع الأسعار، تدهور الأوضاع الصحية والغذائية في مناطق من البلاد..).

وجاء موضوع عودة اللاجئين في السنغال ومالي، ليكشف مدى ضبابية الرؤية وميوعة الخطاب السياسي لدى عدد من مكونات الطبقة السياسية الوطنية.. الأمر الذي يبدو أنه مهد الأرضية لخطاب يعود بمضمون النقاش وصراع الأفكار والأطروحات عقودا إلى الوراء حيث شعارات تثير النعرات وتذكي الخلافات القومية الضيقة بين مكونات الشعب الواحد.. جدل لا يمكن اعتباره ضمن الرؤية الوطنية الشمولية التي يفترض أن يتحلى بها كل أطراف المشهد السياسي.. خطابات نارية من هنا، وردود بركانية من هناك.. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصل من يتابعها لأية خلاصة تصب في مصلحة تعزيز الوحدة الوطنية وإنصاف مواطنين ظلموا وسلبت حقوقهم الأساسية؛ ولا في مصلحة حماية أمن واستقرار البلد والحفاظ على هويته وتماسكه..

 

السالك ولد عبد الله

 

السفير: العدد 557/ الصادر بتاريخ: 16 يوليو 2007