الحلقة 34 من تاريخ الأنظمة في موريتانيا (رجل ليس كالرجال (سيد محمد ولد عباس)) | صحيفة السفير

الحلقة 34 من تاريخ الأنظمة في موريتانيا (رجل ليس كالرجال (سيد محمد ولد عباس))

أربعاء, 19/10/2016 - 11:51

نتيجة لكل الملاحقات الآنفة توقف عمل المؤسسة وفي هذه الفترة التي عانيت فيها قساوة الظلم ومرارة التنكر التقيت صديقا ممن يحفظون للصداقة حقها وإن كانوا قليلين لا يتنكرون ساعة العسرة هو "سيد محمد بن العباس" تغمده الله برحمته.

أعرب لي في بداية لقائي معه عن وقوفه إلى جانبي في هذه المحنة وجسد ذلك فعلا عندما أتاح لي فرصة اختيار أي نشاط يساعدني فيه. وقتها شعرت بالثقة في نفسي لكن آفاق المستقبل القريب غير واعدة في ظل تلك الظروف مع أني واثق من أن مع العسر يسرا وأن طغيان القوة وغرورها كضوء شهاب سرعان ما يخبو.

أوضحت له أن الوضعية الراهنة لا تسمح بمزاولة نشاط اقتصادي ذي بال وعليه فإنه من مصلحتي أن أباشر عملا عاديا لا يثير الانتباه، وبموجب هذا الاقتراح رأى أن تكون مساعدته في مجال النقل وعهد إلي بوضع دراسة تحدد نوعية الخدمة وحدود الإمكانيات المطلوبة وحين وضعت المشروع بين يديه وجدته إنسانا يقف عند كلمته ومنحني الخيار ثانية فيما عنده من وسائل النقل فأخذت ثلاث حافلات وصهريجين حمولة كل واحدة منهما 30 طنا، وسيارة من نوع R18 بدون اللجوء إلى بروتوكول تعاقد.

لم تمض فترة حتى نجح المشروع وعاد بأرباح وتمكنت بموجب ذلك من قضاء ما علي من حقوق وفق رغبتي وانسجاما مع وسائلي.

لم تكن تلك المساعدة مما يمكن تقديره أو تعويضه بل كان لها أكثر من معنى. كان ثمنها يسمو على أن يقاس في تلك الأيام التي يفر فيها المرء من أخيه وقد صدق عليه قول القائل:

إن أخاك الحق من سعى معك                ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا ريب الزمان صدعك                شتت فيك شمله ليجمعك

وهو لعمري من ينطبق على قول الشاعر الشعبي في هذا الصنف الأول من الأصدقاء:

لصحاب اعل جنسين ارعاك                 لا تتتكيور فيهم لذاك

فيهم ش لادرت فأكفاك                       فالش فيه اسو كد الخظت

ماه بعد امر ياك                              يتغير عن ذاك ال شفت

يسو مال لعد امرياك                 ويسو عن من كيفن كمت

أفيهم ش بغيك ظهر فيه              غير اعلي هالا تكذب شفت

دخليه ألا تلحك دخليه                 لكثر من من داخل بهت

كان سيد محمد إنسانا دمث الأخلاق ذاق حلاوة الإيمان. كان مجلوبا لصناعة الخير، بسيط الهيئة، كثير الإنفاق، حافظا للعهد. يقول أبو مدين ولد الشيخ أحمد:

ولا غرو إن طابت صنائع ماجد             شريف فما العود من حيث يعصر

أتذكر أنه حين انتخب على رأس اتحاد أرباب العمل وجده جثة هامدة وجعل منه شريكا اقتصاديا فاعلا بفضل التنظيم ونفاذ البصيرة والتضحية وإعطاء المثال الحسن.

عندما توفي نتذكر كيف وارته الثرى الأمة بأكملها وشيعه الطيف السياسي للبلاد بلا استثناء.

كان سيد محمد عباس من الثوابت التي يجتمع حولها الناس في هذا البلد وقليلا ما اتفقوا على شيء. نذكره اليوم باعتزاز كبير وحسبنا أن لا مصيبة بعد محمد صلى الله عليه وسلم وكأني بالشاعر قال ما قاله على لسانه:

سيذكرني قومي إذا جد جدهم         وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

ويقول شاعر آخر:

إن لله عباطا فطنا                     طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما عرفوا               أنها ليست لحي سكنا

جعلوها لجة واتخذوا                  صالح الأعمال فيها سفنا

لقد ترك ذكرا خالدا وسمعة لن تنطمس بين العظماء والخالدين فرحم الله السلف وبارك في الخلف.

كانت علاقتي بالرجل من ذلك النوع الذي نسجته وشذبته المعاملة الصادقة في إطار الاتحاد الموريتاني لأرباب العمل واتحادية التجارة واستمرت بعد ذلك طيلة عشرين سنة كنت اكتشفته خلالها كل يوم.

لقد تعززت بفعل المعاشرة الحميمية عبر فصول تلك المعاناة التي خاضها إلى جانبي حين لم ينطل عليه زيف الأكاذيب التي لفقها جهاز تجسس النظام.

إن المعطيات التي بنى عليها هؤلاء موقفهم تعود في الحقيقة إلى ما توهموا أنه موقف موال للمغرب، وهي تهمة لا تستند إلى أي أساس بل إنها لفقت طبقا لتحاليل شخصية مغرضة تستهدف في مراميها البعيدة المساس من شرف الآخرين.