حظيرة آرغين: بين ثروة النفط.. وشبح أنفلونزا الطيور | صحيفة السفير

حظيرة آرغين: بين ثروة النفط.. وشبح أنفلونزا الطيور

أحد, 25/09/2016 - 17:51

تتربع الحظيرة الوطنية لحوض آرگين على مساحة تقدر بـ12.000 كلم مربع تقع على الساحل الموريتاني جنوب مدار السرطان؛ حيث تتعانق كثبان الرمال الناعمة بزرقة مياه البحر، وحيث تختلط المناخات والتيارات والأعراق والثقافات في تنوع عجيب.. تحكي قصص التاريخ أن شعوب البافور والعرب والبربر والمستكشفين البرتغاليين وقوافل تمبكتو وصيادي جزر الكناري كانوا يعيشون بأمن وسلام في هذه الأرض مثلما تتعايش في الحظيرة نباتات المانگروف وعجول البحر وخطاف الماء والدلافين والأسماك وطيور المستنقعات. أنشئت الحظيرة سنة 1976 وأصبحت سنة 1989 تراثا عالميا تابعا لليونسكو.. خلدت منذ أيام عيدها الثلاثين، واحتفلت بخطوات قطعتها على الطريق السليم وإن كان التوجس والخوف سيدي الموقف بعد أن أصبح التنوع البيئي في الحظيرة مهددا حين تم اكتشاف النفط على مرمى عصا من ساكنة الحظيرة التي كانت بالأمس القريب لا تسمع إلا صخب الأمواج وحفيف أجنحة الطيور.. وبعد أن عبر داء أنفلونزا الطيور إلى دول إفريقية يجمعنا بها أكثر مما يفرقنا.
 

بداية الغيث قطرة

لم تكن الحظيرة عند إنشائها سنة 1976 تملك سوى القليل من الوسائل وعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من العمال، ولم يكن الوصول إليها إلا نوعا من المغامرة آنذاك؛ وكانت مكاتب الحظيرة حينها في انواذيبُ.. وما كان الوكلاء يذهبون إلى الميدان إلا في حالات عارضة بواسطة ثلاث سيارات من نوع Land Rover ممنوحة من قبل الصندوق العالمي للطبيعة (WWF) إلا أن التعاون الفرنسي قام بتقديم دعم مهم بوضع مساعدة فنية تحت التصرف وبناء محطة ميدانية قرب قرية "إويك" التي انعقد بها سنة 1982 اجتماع للمنظمة الدولية Wetlands ضم متخصصين علميين ومديرين لمناطق من القطب الشمالي، وخلص المشاركون فيه -بعد أن أدهشتهم روعة الحظيرة- إلى المبادرة الفورية لتنسيق الجهود لحماية الحظيرة التي اعتبروها هبة من الله إلى ساكنة الأرض. ولم تمض بضع سنوات على الاتفاق حتى أنشأ Luchoffman برفقة Gabriel Hatti المؤسسة الدولية لحوض آرگين تحت الرئاسة الشرفية لرئيس جمهورية موريتانيا في ذلك الوقت، وبدعم من أهم المنظمات الدولية للمحافظة على البيئة؛ وقد مكنت هذه المؤسسة من جمع بعض المساعدات التي كانت الحظيرة بجاحة إليها للاضطلاع بمهماتها. وفي تلك الفترة تطور البحث العلمي وأخذ شكلا مهنيا، وقد كانت عمليات البحث الأولى تهتم بالطيور وجمع معطيات حول مختلف مكونات النظام البيئي لطيور المستنقعات وبيئة الأحواض الوحلية من قبل الفرق الهولندية والمعهد الملكي للعلوم الطبيعية (RIN) وحول علوم المحيطات من قبل مختبر الأنظمة الأرضية في المركز الوطني للأبحاث العلمية؛ كل هذا الوجود ساهم في التعريف بالحظيرة ليتم الاعتراف بها من خلال تصنيفها -في إطار الاتفاقية المتعلقة بالمناطق الرطبة- منطقة ذات أهمية عالمية من قبل اليونسكو.

وقد ساهم إنشاء الحظيرة في حماية تجمعات غريبة من الطيور التي تتغذى على الأسماك. وتبين الأبحاث أن عددا كبيرا من الأنواع البحرية ليس موجودا إلا أثناء أوقات من دورته البيولوجية مثل سمك البوري والسلاحف البحرية.. كما لعبت دورا حيويا في الحفاظ على القطاع الأساسي في الاقتصاد الموريتاني (الثروة السمكية) ولهذا السبب اتخذت السلطات قرار منح حق الصيد في محيط الحظيرة إلى مجموعات إيمراگن فقط -شريطة استخدام شباك الصيد التقليدي- وحسنا فعلت.

فسيفساء الحظيرة

نظرا لما تزخر به حظيرة آرگين من نباتات وأعشاب أصبحت مكانا مفضلا للسلاحف؛ وهي أبرز الأنواع التي تتغذى على النباتات الحية في المعاشب البحرية. ويعتقد إيمراگن أن السلاحف تأتي لوضع البيض في فترة الرياح الموسمية (يوليو- سبتمبر) وأن قسما من الصغار عند الولادة يتوجه إلى اليابسة ويصبح -بالتالي- سلاحف برية. وقد تم التأكد من هجرة السلاحف بين غينيا بيساو وموريتانيا بالعثور في الحظيرة على اثنتين كانتا قد ختمتا في "بيجا گوس" خلال فترة وضع البيض؛ وبهذا يتأكد أن السلاحف الخضراء في خليج آرگين تنتمي لعد جماعات أتت أفرادها بين فترات التناسل. وتوجد أنواع أخرى من السلاحف في الحظيرة كالحنفاء، والسلحفاة الضخمة.. وللسلاحف أهمية بيئية معتبرة؛ ليس لكونها حيوانات كبيرة يزن الفرد البالغ منها 150 كلغ.. ولكن لكونها فريسة تبحث عنها اللواحم البحرية كالقرش. إضافة إلى السلحفاة البحرية توجد بكثرة أسماك البوري التي تتغذى -هي الأخرى- على النباتات، وتلعب دورا مهما في النظام البيئي؛ وأكثر أنواعها أهمية البوري الأصفر الذي تؤكد الدراسات أنه كان السبب في استقرار مجتمعات صيادي إيمراگن على الساحل. وحتى وقت قريب كان يشكل حجر الزاوية في اقتصادهم. ويتميز هذا النوع من السمك بالطول؛ حيث يصل طول إناثه حوالي المتر، ويعيش في أسراب من عدة عشرات إلى عدة آلاف.. ولعل من نافلة القول إن حظيرة حوض آرگين تعج بمستعمرات الطيور التي تتناثر على بعد آلاف الكيلومترات شمال خليج آرگين من القطب الشمالي فما دونه. وعلى امتداد أربعة أسابيع -إلى ستة- تكثف الطيور نشاطها "التغذوي" -خصوصا أثناء الجزر الليلي- لتلقي عصا الترحال بعد أن أنهكها السفر من بلاد الصقيع (سيبيريا) إلى شواطئ موريتانيا؛ وكثيرا ما شاهد سكان إيمراگن أطفالهم وهم يطاردون الطيور المنهكة دون أن تتمكن هذه من التحليق بسبب الإعياء الشديد. وليس هذا فحسب؛ بل تتوفر الحظيرة على العديد من السرطانات البحرية، ولها دور لا يمكن إغفاله في المحافظة على التنوع البيئي؛ بإعادتها المادة العضوية إلى دورة جديدة؛ كما توجد أنواع من البجع الأبيض، والخرشانات وطيور أخرى آكلة للأسماك.

ومنذ وصول الشركات الباحثة عن النفط إلى بلادنا؛ والتي بدأت بحثها في عرض البحر غير بعيد من الحظيرة.. عادت الأخيرة إلى الواجهة، وتم عقد الندوات والمؤتمرات حول مصير الحظيرة الذي أصبح يقلق المنظمات والهيئات العاملة في المجال البيئي؛ لما قد يجره "الذهب الأسود" الذي -يسيل له اللعاب- من تلوث محتمل لمياه البحر التي كانت صافية بالأمس القريب؛ وما قد تلحقه الناقلات العملاقة التي تحمل النفط إلى أسواق العالم بسكنية الشاطئ  من ضجيج لا يستبعد الكثير من الباحثين أن يحول الفردوس الأرضي (حوض آرگين) إلى جهنم لا تطاق.. هذا دون أن ننسى خطر "أنفلونزا الطيور" العابر للقارات دون جواز سفر، ومن المعروف أن الحظيرة تستقبل سنويا مليوني طائر من أنحاء عديدة من العالم.

إيمراغن.. بين الأمس واليوم

توجد عدة من قرى "إيمراگن" على طول الشاطئ؛ منها تسع قرى داخل الحظيرة الوطنية، يسكنها ما يناهز 1200 نسمة. وحسب الروايات فقد كان إيمراگن يتواجدون على الشاطئ في موسم الأمطار الذي يتزامن مع هجرة أسراب سمك البوري (أزول) نحو الجنوب، ولقد حددت أنشطة الصيد مواقع القرى؛ ذلك أن نمط اصطياد البوري كان يتمثل في قطع طريقه بشبكات متعامدة مع الشاطئ؛ مما يشتت الأسراب.. لذا كان لزاما عليهم ترك مسافة معينة بين القرى بمعدل عشرين كلم تقريبا.

هذا على شاطئ البحر؛ أما في الصحراء المجاورة فيقترب الرعاة من الشاطئ لتحميض قطعان إبلهم بالأملاح، وليتلقوا (هم) علاجات بزيت السمك الذي أثبت الطب الحديث أنه علاج ناجع لكثير من الأمراض (فيما يعرف بـ"گيطنة الحوت").

وفي السنوات الأخيرة عرفت قرى إيمراگن تحولات عديدة.. ففي الحظيرة الوطنية حيث لا يسمح بالصيد إلا للزوارق ذات الأشرعة -والتي لا تشكل خطرا على البيئة- قامت الحظيرة الوطنية لحوض آرگين بتمكين إيمراگن من منطق تجاري يضمن لهم بيع أسماكهم بدلا من استهلاكها محليا. وعلى هامش اليوم الذي احتفلت فيه الحظيرة بإطفاء شمعتها الثلاثين تمكنت "السفير" من محاورة بعض سكان قرى إيمراگن حيث أشادوا بالجهود التي تبذلها إدارة الحظيرة الحالية؛ لمدهم بالماء الشروب عبر الصهاريج المتنقلة، وإنشاء وحدات لتحلية مياه البحر.. إضافة إلى دعم الحظيرة لنشاطات التعاونيات في القرى، ودعمهم لتحسين خبرتهم في ميادين بناء الزوارق وصيانتها.

وللحظيرة رأيها..

المدير العام للحظيرة الوطنية لحوض آرگين سيدي محمد ولد امين صرح لـ"السفير" بأن هدف الحظيرة الوطنية هو حماية التنوع البيئي الذي أعطى الحظيرة مكانتها العالمية، وجعلها مزارا للباحثين؛ لكن رغم ذلك -يقول ولد امين- تبقى الحظيرة معرضة لأخطار التلوث البيئي إذا ما أهملت الشركات العاملة في مجال النفط السبل الكفيلة بمنع حدوث أية كارثة بيئية. وأضاف أن "خطر الإصابة بأنفلونزا الطيور محتمل، ولا يمكننا أن نقول إن بلادنا ليست عرضة له؛ خصوصا في حظيرة حوض آرگين التي تستقبل سنويا ما يناهز مليوني طائر من أرجاء مختلفة من العالم.. وبخصوص الحالات التي سجلت في إفريقيا وأصابت العديد من ساكنتها بالهلع أطمئنكم على أنها ليست حالات صريحة من أنفلونزا الطيور؛ وإنما تتقاطع معها في العديد من الأعراض ليس إلا". وخلص ولد امين إلى أن "بإمكاننا الإمساك بالعصا من الوسط إذا ما انتهجنا خطة صارمة تجاه الشركات التي تنقب عن النفط في بلادنا؛ وبذلك نكون قادرين على قتل عصفورين بحجر واحد".

وتبقى حظيرة حوض آرغين قبلة لهواة الطبيعة العذراء والباحثين عن الراحة والاستجمام في جو آمن -وما أقله في أيامنا هذه- ومسرحا للطيور، والسلاحف، والحيوانات الغريبة.. رغم مؤشرات العثور على كميات هائلة من "الذهب الأسود" السائل، واحتمال تلوث بيئة الحظيرة نتيجة عملية البحث والتنقيب الجارية عن النفط في مياهنا الزرقاء، وضوضاء ناقلاته التي تجوب عرض البحر جيئة وذهابا.

هذا عدا عن احتمال انتشار فيروس "أنفلونزا الطيور" المعدي بين ذوات الجناح من ساكنة الحظيرة التي أصبحت ملكا لسكان المعمورة؛ بعد أن أدرجت اليونسكو الحظيرة سنة 1989 ضمن دائرة التراث العالمي.

وحتى إشعار جديد ستظل الحياة في الحظيرة خليطا من الأعشاب والحيوانات المتعددة، وتواصل الطيور رحلتها الاعتيادية بين الشمال والجنوب.

 

محمد ولد سيدنا عمر

 

السفير؛ العدد رقم: 333

الصادر بتاريخ 30 يونيو 2006